عاد الى بغداد عبوسي
عاد الى بغداد .. ابنها المهاجر (عبوسي) الاسم الذي لم يغب عن ذاكرة العراقيين لاكثر من اربعة عقود ، وربما هو الاسم الاكثر رسوخا ، ولا يمكن ان يذكر الاسم الا والتفتت الذاكرة الى وجه الممثل الذي ادى هذه الشخصية ، فهي تلتصق على الفور بالعيون ، حتى اصبح صورة من صور الذاكرة الشعبية ، كالاسماء الخالدة ، وحين كنت معه لنهار كامل تقريبا ، كنت اشاهد كيف النظرات تتدفق عليه من مختلف العيون وعلى اختلاف اجيالها ، تلتصق به وتحتفي به ، وتذكر الاسم بمتعة لانظير لها ، كأنه احد الابطال العائدين من عمق التاريخ ، وكنت اشعر بسعادته وهو يتفجر مرحا وفرحا ، ويتراءى لي في محجريه توهج ادمع كان يخفيه بأغماضة ، ولان عودته فتحت ابواب التذكر ، فقد حاورته ، حاورت (عبوسي) مثلما حاورت الدكتور حمودي الحارثي الذي يحمل شهادة الدكتوراه من المعهد العالي للسينما في مصر حيث جاء ترتيبه الاول على قسم الاخراج آنذاك .
لنبدأ من نقطة الصفر ، لحظة التفكير بمغادرة العراق .. لماذا ؟
وفاة سليم البصري عام 1997.. كانت نقطة الانطلاق في فكرة السفر ، وقد تزامنت وفاته مع دعوة لي من اتحاد الادباء العرب ، ومن رئيس الاتحاد الاستاذ الاديب فخري قعوار ، في تلك الايام بالذات شعرت بحالات غريبة من عدم الوفاء لهذا الفنان الكبير ، ففي يوم وفاته لم يشيعه احد ، بل ان وزير الاعلام حينها حامد يوسف حمادي رفض ان نبقيه حتى الصباح من اجل تشييعه ، كما ان عددا من الفنانين كانوا في بيت الراحل وهم : راسم الجميلي ونقيب الفنانين داود القيسي ورضا الشاطي وخليل الرفاعي وصادق علي شاهين ومحمد ابن الفنان طعمة التميمي ، وهؤلاء لم يمشوا في جنازة البصري ،تواجدوا في بيته ولم يخطوا خطوة واحدة وراءه حتى في سياراتهم .. وذهبوا الى بيوتهم ، وتصور حتى الصور الفوتوغرافية للتشييع منعت .
لماذا ذلك يحدث وسليم البصري فنان الشعب ؟
لا اعرف السر ، ولكن يبدو ان الفنانين خافوا من الوزير الذي طلب ان لا نبقيه من اجل ان يشيعه الفنانون ، على الرغم من ان البصري تربطه زمالة مع الوزير ، لذلك لم يكن هناك سواي والرجل الذي قام في تغسيله في (حسينية القاهرة ببغداد) ، ساعدت الرجل واخذته الى النجف لدفنه ، وليس هذا فقط ، بل في اليوم السابع لوفاته كانت هنالك ندوة تأبينية مخصصة من تلفزيون العراق للحديث عن الراحل على الهواء مباشرة ، دعي اليها اربعة من الفنانين والكتاب الكبارزكنت من ضمنهم ، ولكن للاسف لم يبل الدعوة احد سواي ، وانتظرت المذيعة اقبال حامد قدومهم لكنهم لم يحضروا فقدمت الندوة لوحدي لمدة (35) دقيقة ، فوضعت النقاط على الحروف بحق هؤلاء الفنانين وحق المسؤولين في وزارة الثقافة انذاك ، عاتبتهم وشتمتهم (بنزاكة) لعدم وفائهم لهذا الفنان الكبير .
وهذا ما جعلك تفكر بالسفر ؟
هذه الحوادث هي التي جعلتني اقرر ان اهاجر ، فبلغت زوجتي بأنني سوف اغادر وقلت لها : (انا رجل خرج ولم يعد) وحملت امتعتي تلبية لدعوة اتحاد الادباء العرب وسافرت الى الاردن اولا ، بقيت فيها عشرة اشهر ولم اكن املك غير (120) دولارا فقط ، تصور هذا المبلغ لدي ، ولكن الدكتور همام رشيد من آل هميم احتضنني وساعدني كثيرا وعينني في شركتهم كموظف في العلاقات براتب مقداره (240) دينارا اردنيا ، ومنت ارسل منه مبلغا جيدا الى عائلتي ، وهو لا يقاس بما كنت اتقاضاه في العراق حين كان راتبي الشهري اكثر من دولارين بقليل وكان راتب زوجتي دولاارا واحدا فقط .
وبعد الاشهر العشرة في الاردن ماذا فعلت ؟
- سافرت الى هولنداوهناك طلبت الاقامة الدائمية لي ولعائلتي ، فضحك الهولنديون وقالوا لي انك في (مركز لجوء) ، لكنني قلت ااني اريد الاقامة كي انشر الحرية وان اعيش حياتي مع هذا المجتمع وخاصة لاولادي وزوجتي ، فأعطوني اللجوء الانساني ، واذكر ان المترجمين كانوا من الاشقاء الاكراد وعرفوني فورا وقدموني الى مسؤولي اللجوء على انني احد الفنانين الكبار ، وألحوا علي ان اطلب اللجوء السياسي لكنني رفضت وقلت انا لست سياسيا ، وبعد ثلاث سنوات اعطوني الاقامة وطلبوا ان تأتي عائلتي / وقالوا : نحن نعتذر .. كان عليك ان تطلب اللجوء السياسي ، لكانت عائلتك معك منذ السنة الاولى ، وبالفعل جلبت عائلتي بموافقة من الملكة بياتريكس بعد عرفوا شخصيتي ومقدار تأثيري في العراقيين والعرب .
لماذا لم تفكر بالذهاب الى دولة عربية ؟
كان المفروض ان اذهب الى ليبيا عام 1998 ، وكان لدي عقد عمل ، وكنت اود ان اعمل عقد عمل لزوجتي المخرجة المسرحية (منتهى محمد رحيم) ، ولكن تصرف موظف في الملحقية الثقافية الليبية جعلنيي اغير رأيي ، فقد (تجاسر) الموظف على العراقيين واساء اليهم ، فما كان مني الا ان ارمي الاوراق في وجهه واترك السفر ، وقد سهل دكتور همام ظروف سفري المادية الى هولندا .
ماذا عملت في هولندا ؟
في اول يوم لوصولي لـ (كمب) اللجوء ، طلبوا من اللاجئين الذين يرغبون بالعمل الطوعي ثمان او عشر ساعات ويدفعون لهم مقابل كل ساعة (خلدن) واحد (يساوي 30 من اليورو) ، قلت انا رسام ونحات فهاتوا لي ادوات النحت لأنحت ، ففتحوا دواليب كانت هناك واذا بكم هائل من شفرات النحت والمطارق والمضارب امامي ، وكان هناك بعض الجذوع من الخشب (يابسة) داخل المخزن ، فقلت لهم لآخذ هذه الجذوع واحولها الى اشكال واعمال فنية ، وبالفعل بدأت وشجعني على ذلك صديقي الدكتور المهندس النفطي الكبير سالم الفياض (كان لاجئا) ، لانه لا يستطيع العمل ، وخلال (22) يوما انجزت اربعة اعمال ، واقيم لي فيها معرض في الهواء الطلق ، بعت فيه عملين احدهما لصاحب الكمب مستر اونو بسعر (800) خلدن ، لكنه طلب مني ان ابيع الثاني بـ (800) دولار ليكون المبلغ لصالحي بالدولار االى مستوى الضعف ، وطوال السنوات اللاحقة كنت اعمل في الرسم والنحت ، واقمت اكثر من (15) معرضا للنحت داخل المدن الهولندية مع (15) لقاء جماهيريا للعراقيين والعرب هناك للحديث عن تجربتي ، وكذلك في السويد والدنمارك والمانيا والتقيت الجاليات هناك وتحدثت لهم .
والتمثيل .. اينك منه ؟
طوال احد عشر عاما لم امارس التمثيل ولم اشاهد العروض المسرحية لانها لا تستهويني لانها اعمال حداثوية .
بصراحة .. ألم تشعر بحنين الى التمثيل ؟
كان عندي شوق كبير للتمثيل ، ولكن كما تعلم المسرح عمل جماعي ، وانا كنت الممثل الوحيد في شمال هولندا ، لكنني مارست الكتابة ، فأعدت كتابة مسرحية من ثلاثة فصول ، وكتبت مسلسلا تلفزيونيا من ثلاثين حلقة ، ولدي مشروع كتابة ثلاثين حلقة اخرى كما اعددت مسرحيتين للمسرح ، وكلها ما زالت في جعبتي واحاول ان اجد من يعملها ، وبصراحة كان هدفي ان اغير مسار حياتي وحياة اولادي ، وخروجي من العراق كان اقتصاديا وليس سياسيا ، كان مجبرا اخاك لابطلا .
ما الذي اوحاه لك ما حدث مع البصري ؟
اوحى لي ان لاقيمة للفن ولا وفاء ، لان كل الموجودين كان للبصري فضل عليهم ، وهذا ماكان يحز في نفسي .
خلال وجودك في الاردن ألم يطلبك احد للتمثيل ؟
جاءني الاستاذ صلاح كرم الى الاردن وهو يحمل سيناريو مسلسل (رجال الظل) مع مسؤول كبير ، طلبا مني ان اعود وامثل في العمل وان الدور (مفصل) علي ، فقلت ان الوقت قد فات ، وكان الدور المعروض علي تدور احداثه في باريس كوني اعرف اللغة الفرنسية ، وهو الدور الذي مثله في المسلسل فناننا الكبير يوسف العاني .
بصراحة ايضا .. ألم تكن تخشى من اجهزة النظام السابق؟
ابلغوني في رسالة انني نظيف وعلي ان ابقى نظيفا ، ثانيا ان عائلتي كانت في العراق ، ولو اقل زلة اعملها لتعرضت عائلتي للخطر ، فقلت لهم انني خرجت لسبب اقتصادي فقط .
ألم تلتق شخصيات عراقية في الاردن ؟
كنت دائما مع د . همام ومع الشاعر عبد الوهاب البياتي ومع سعد البزاز ، وكل واحد من هؤلاء له خط مختلف عن الاخر ، ولم يكن لديه اي اقتراب من اي خط .